فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وكأيِّنْ مِنْ قرْيةٍ عتتْ عنْ أمْرِ ربِّها ورُسُلِهِ فحاسبْناها حِسابا شدِيدا وعذّبْناها عذابا نُكْرا (8)}
لما شُرعت للمسلمين أحكام كثيرة من الطلاف ولواحِقه، وكانت كلها تكاليف قد تحجُم بعضُ الأنفس عن إيفاء حق الامتثال لها تكاسلا أو تقصيرا رغّب في الامتثال لها بقوله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا يُسْرا وكأِيِّن مِّن قرْيةٍ عتتْ عنْ أمْرِ ربِّها ورُسُلِهِ فحاسبناها حِسابا شدِيدا وعذبناها عذابا نُّكْرا فذاقتْ وبال أمْرِها وكان عاقبة أمْرِها خُسْرا أعدّ الله لهُمْ عذابا شدِيدا فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءامنُواْ قدْ أنزل الله إِليْكُمْ ذِكْرا} [الطلاق: 2] وقوله: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} [الطلاق: 4]، وقوله: {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} [الطلاق: 5] وقوله: {سيجعل الله بعد عسر يسرا} [الطلاق: 7].
وحذر الله الناس في خلال ذلك من مخالفتها بقوله: {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق: 1]، وقوله: {ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} [الطلاق: 2] أعقبها بتحذير عظيم من الوقوع في مخالفة أحكام الله ورسله لقلة العناية بمراقبتهم، لأن الصغير يُثير الجليل، فذكّر المسلمين (وليسوا ممن يعتوا على أمر ربهم) بما حلّ بأقوام من عقاب عظيم على قلة اكتراثهم بأمر الله ورسله لئلا يسلكوا سبيل التهاون بإقامة الشريعة، فيلقي بهم ذلك في مهواة الضلال.
وهذا الكلام مقدمة لما يأتي من قوله: {فاتقوا الله يا أولي الألباب} الآيات.
فالجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة عطف غرض على غرض.
و{كأيّن} اسم لعدد كثير مُبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن و{كأيّن} بمعنى (كم) الخبرية.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {وكأيّن من نبيء قتل معه ربيون كثير} في [آل عمران: 146].
والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لِجزائهم على عتوّهم عن أمر ربهم ورسله فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى وأنها غير مطردة في جميعهم.
و{كأيّن} في موضع رفع على الابتداء، وهو مبني.
وجملة {عتت عن أمر ربها} في موضع الخبر ل {كأيّن}.
والمعنى: الإِخبار بكثرة ذلك باعتبار ما فُرع عليه من قوله: {فحاسبناها} فالمفرع هو المقصود من الخبر.
والمراد بالقرية: أهلها على حد قوله: {واسأل القرية التي كنا فيها} [يوسف: 82] بقرينة قوله عقب ذلك {أعد الله لهم عذابا شديدا} إذ جيء بضمير جمع العقلاء.
وإنما أوثر لفظ القرية هنا دون الأُمة ونحوها لأن في اجتلاب هذا اللفظ تعريضا بالمشركين من أهل مكة ومشايعة لهم بالنذارة ولذلك كثر في القرآن ذكر أهل القرى في التذكير بعذاب الله في نحو {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4].
وفيه تذكير للمسلمين بوعد الله بنصرهم ومحق عدوّهم.
والعتوّ ويقال العُتِيّ: تجاوز الحدّ في الاستكبار والعناد.
وضمن معنى الإِعراض فعدي بحرف {عن}.
والمحاسبة مستعملة في الجزاء على الفعل بما يناسب شدته من شديد العقاب، تشبيها لتقدير الجزاء بإجراء الحساب بين المتعاملين، وهو الحساب في الدنيا، ولذلك جاء {فحاسبناها} و{عذبناها} بصيغة الماضي.
والمعنى: فجازيناها على عتوّها جزاء يكافئ طغيانها.
والعذاب النُكُر: هو عذاب الاستئصال بالغرق، والخسف، والرجم، ونحو ذلك.
وعطفُ العذاب على الحساب مؤذن بأنه غيره، فالحساب فيما لقوه قبل الاستئصال من المخوفات وأشراط الإِنذار مثل القحط والوباء والعذاب هو ما توعدوا به.
ولك أن تجعل الحساب على حقيقته ويراد به حساب الآخرة.
وشدته قوة المناقشة فيه والانتهارُ على كل سيئة يحاسبون عليها.
والعذاب: عذاب جهنم، ويكون الفعل الماضي مستعملا في معنى المستقبل تشبيها للمستقبل بالماضي في تحقق وقوعه مثل قوله: {أتى أمر الله} [النحل: 1]، وقوله: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} [الأعراف: 44].
والنُكُر بضمتين، وبضم فسكون: ما ينكره الرأي من فظاعة كيفيته إنكارا شديدا.
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوبُ {نكُرا} بضمتين.
وقرأه الباقون بسكون الكاف.
وتقدم في سورة الكهف.
والفاء في قوله: {فذاقت وبال أمرها} لتفريع {فحاسبناها} {وعذبناها}.
والذّوق: هنا الإِحساس مطلقا، وهو مجاز مرسل.
والوبيل: صفة مشبهة.
يقال: وبُل (بالضم): المرعى، إذا كان كلأُه وخيما ضارا لما يرعاه.
والأمر: الحال والشأن، وإضافة الوبال إلى الأمر من إضافة المسبب إلى السبب، أي ذاقوا الوبال الذي تسبب لهم فيه أمرهم وشأنهم الذي كانوا عليه.
وعاقبة الأمر: آخره وأثره.
وهو يشمل العاقبة في الدنيا والآخرة كما دل عليه قوله: {أعد الله لهم عذابا شديدا}.
وشبهت عاقبتهم السّوأى بخسارة التاجر في بيعه في أنهم لما عتوا حسبوا أنهم أرضوْا أنفسهم بإعْراضهم عن الرسل وانتصروا عليهم فلما لبثوا أن صاروا بمذلة وكما يخسر التاجر في تجره.
وجيء بفعل {كان} بصيغة المضي لأن الحديث عن عاقبتها في الدنيا تغليبا.
وفي كل ذلك تفظيع لما لحقهم مبالغة في التحذير مما وقعوا فيه.
وجملة {أعد الله لهم عذابا شديدا} بدل اشتمال من جملة {وكان عاقبة أمرها خسرا} أو بدل بعض من كل.
والمراد عذاب الآخرة لأن الإِعداد التهيئة وإنما يهيّأ الشيء الذي لم يحصل.
وإن جعلت الحساب والعذاب المذكورين آنفا حساب الآخرة وعذابها كما تقدم آنفا فجملة {أعد الله لهم عذابا شديدا} استئنافا لبيان أن ذلك متزايد غير مخفف منه كقوله: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا} [النبأ: 30].
هذا التفريع المقصود على التكاليف السابقة وخاصة على قوله: {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه شدِيدا فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين} [الطلاق: 1] وهو نتيجة ما مهّد له به من قوله: {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله}.
وفي نداء المؤمنين بوصف {أولي الألباب} إيماء إلى أن العقول الراجحة تدعو إلى تقوى الله لأنها كمال نفساني، ولأن فوائدها حقيقية دائمة، ولأن بها اجتناب المضار في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62، 63]، وقوله: {أولي} معناه ذوي، وتقدم بيانه عند قوله: {واللائي يئسن من المحيض} [الطلاق: 4] آنفا و{الذين آمنوا} بدل من {أولي الألباب}.
وهذا الاتباع يومئ إلى أن قبولهم الإِيمان عنوان على رجاحة عقولهم.
والإتيان بصلة الموصول إشعار بأن الإِيمان سبب للتقوى وجامع لمعظمها ولكن للتقوى درجات هي التي أمروا بأن يحيطوا بها.
لله في هذه الجملة معنى العلة للأمر بالتقوى لأن إنزال الكتاب نفع عظيم لهم مستحق شكرهم عليه.
وتأكيد الخبر بـ {قد ءامنُواْ قدْ أنزل الله إِليْكُمْ ذِكْرا رّسُولا يتْلُو عليْكُمْ ءايات الله مبينات لِّيُخْرِج الذين ءامنُواْ وعمِلُواْ الصالحات} للاهتمام به وبعث النفوس على تصفح هذا الكتاب ومتابعة إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم.
والذكر: القرآن.
وقد سمي بالذكر في آيات كثيرة لأنه يتضمن تذكير الناس بما هم في غفلة عنه من دلائل التوحيد وما يتفرع عنها من حسن السلوك، ثم تذكيرهم بما تضمنه من التكاليف وبيناه عند قوله تعالى: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر} في سورة [الحجر: 6].
وإنزال القرآن تبليغه إلى الرسول بواسطة الملك واستعير له الإِنزال لأن الذكر مشبه بالشيء المرفوع في السماوات، كما تقدم في سورة الحجر وفي آيات كثيرة.
وجعل إنزال الذكر إلى المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به وعملوا بما فيه فخصصوا هنا من بين جميع الأمم لأن القرآن أنزل إلى الناس كلهم.
وقوله: {رسولا} بدل من {ذكرا} بدل اشتمال لأن بين القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ملازمة وملابسة فإن الرسالة تحققت له عند نزول القرآن عليه، فقد أُعمل فعل {أنزل} في {رسولا} تبعا لإِعماله في المبدل منه باعتبار هذه المقارنة واشتمال مفهوم أحد الاسمين على مفهوم الآخر.
وهذا كما أبدل {رسول من الله} [البينة: 2] من قوله: {حتى تأتيهم البينة} في سورة البينة (1).
والرسول: هو محمد.
وأما تفسير الذكر بجبريل، وهو مروي عن الكلبي لتصحيح إبدال {رسولا} منه ففيه تكلفات لا داعي إليها فإنه لا محيص عن اعتبار بدل الاشتمال، ولا يستقيم وصف جبريل بأنه يتلو على الناس الآيات فإن معنى التلاوة بعيد من ذلك، وكذلك تفسير الذكر بجبريل.
ويجوز أن يكون {رسولا} مفعولا لفعل محذوف يدل عليه {أنزل الله} وتقديره: وأرسل إليكم رسولا، ويكون حذفه إيجازا إلاّ أن الوجه السابق أبلغ وأوجز.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم {مبينات} بفتح الياء.
وقرأه الباقون بكسرها ومآل القراءتين واحد.
وجعلت علة إنزال الذكر إخراج المؤمنين الصالحين من الظلمات إلى النور وإن كانت علة إنزاله إخراج جميع الناس من ظلمات الكفر وفساد الأعمال إلى نور الإِيمان والأعمال الصالحات، نظرا لخصوص الفريق الذي انتفع بهذا الذكر اهتماما بشأنهم.
وليس ذلك بدالّ على أن العلة مقصورة على هذا الفريق ولكنه مجرد تخصيص بالذكر.
وقد تقدم نظير هذه الجملة في مواضع كثيرة منها أول سورة الأعراف.
{النور ومن يُؤْمِن بالله ويعْملْ صالحا يُدْخِلْهُ جنات تجْرِى مِن تحْتِها الانهار خالدين فِيهآ أبدا قدْ أحْسن الله لهُ}.
عطف على الأمر بالتقوى والتنويه بالمتقين والعناية بهم هذا الوعد على امتثالهم بالنعيم الخالد بصيغة الشرط للدلالة على أن ذلك نعيم مقيّد حصوله لراغبيه بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات.
و{صالحا} نعت لموصوف محذوف دل عليه {يعمل} أي عملا صالحا، وهو نكرة في سياق الشرط تفيد العموم كإفادته إياه في سياق النفي.
فالمعنى: ويعمل جميع الصالحات، أي المأمور بها أمرا جازما بقرينة استقرأء أدلة الشريعة.
وتقدم نظير هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن.
وجملة {قد أحسن الله له رزقا} حال من الضمير المنصوب في {ندخله} ولذلك فذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإِضمار لتكون الجملة مستقلة بنفسها.
والرزق: كل ما ينتفع به وتنكيره هنا للتعظيم، أي رزقا عظيما.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر {ندخله} بنون العظمة.
وقرأه الباقون بالتحتية على أنه عائد إلى اسم الجلالة من قوله: {ومن يؤمن بالله} وعلى قراءة نافع وابن عامر يكون فيه سكون الالتفات. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن قتيبة:
باب تفسير حروف المعاني وما شاكلها من الأفعال الّتي لا تنصرف:
كأيّن:
كأيّن هي بمعنى: كم. قال الله تعالى: {وكأيِّنْ مِنْ قرْيةٍ عتتْ عنْ أمْرِ ربِّها ورُسُلِهِ} [الطلاق: 8] أي وكم من قرية.
وفيها لغتان: كأيّن بالهمزة وتشديد الياء، وكائن على تقدير قائل وبائع، وقد قرئ بهما جميعا في القرآن، والأكثر والأفصح تخفيفها، قال الشاعر:
وكائن أرينا الموت من ذي تحيّة ** إذا ما ازدرانا أو أصرّ لمأثم

وقال آخر:
وكائن ترى من صامت لك معجب ** زيادته أو نقصه في التّكلّم

كيف:
كيف بمعنى: على أي حال، تقول: كيف أنت، تريد بأي حال أنت؟.
وتقع بمعنى: التعجب، في مثل قوله: {كيْف تكْفُرُون بِالله وكُنْتُمْ أمْواتا فأحْياكُمْ} [البقرة: 28].
سوى وسوى:
سوى وسوى بمعنى غير، وهما جميعا في معنى بدل. وهي مقصورة. وقد جاءت ممدودة مفتوحة الأول، وهي في معنى غير.
قال ذو الرّمّة:
وما تجافى الغيت عنه ** فما به سواء الحمام الحضّن الخضر حاضر

يريد غير الحمام.
وسواء- مفتوحة الأول ممدود- بمعنى: وسط. قال: {فاطّلع فرآهُ فِي سواءِ الْجحِيمِ} [الصافات: 55]، أي في وسطه.
وقد جاءت أيضا بمعنى: وسط، مكسورة الأوّل مقصورة، قال الله تعالى: {مكانا سُوى} [طه: 58]، أي وسطا.
أيان:
أيّان بمعنى متى، ومتى بمعنى: أيّ حين.
ونرى أصلها: أيّ أوان، فحذفت الهمزة والواو، وجعل الحرفان واحدا، قال الله تعالى: {أيّان يُبْعثُون} [النحل: 21]، أي متى يبعثون؟ و{أيّان يوْمُ الْقِيامةِ} [القيامة: 6].
الآن:
الآن: هو الوقت الذي أنت فيه، وهو حدّ الزّمانين: حدّ الماضي من آخره، وحدّ الزمان المستقبل من أوله.
قال الفراء: هو حرف بني على الألف واللام، ولم يخلعا منه، وترك على مذهب الصّفة، لأنه في المعنى واللفظ، كما رأيتهم فعلوا بالذي، فتركوه على مذهب الأداة، والألف واللام له لازمة غير مفارقة.
وأرى أصله: أوان، حذفت منه الألف، وغيّرت واوه إلى الألف، كما قالوا في الرّاح: الرّياح. وأنشد:
كأنّ مكاكيّ الجواء غديّة نشاوى ** تساقوا بالرّياح المفلفل

قال: فهي مرّة على تقدير (فعل) ومرّة على تقدير (فعال) كما قالوا: زمن، وزمان.
وإن شئت جعلتها من قولك: آن لك أن تفعل كذا وكذا، أدخلت عليها الألف واللام ثم تركتها على مذهب (فعل) منصوبة، كما قالوا: «نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال، وكثرة السّؤال».
فكانتا كالاسمين وهما منصوبتان، ولو خفضتا على النّقل لهما من حدّ الأفعال إلى الأسماء في النّية- كان صوابا.
وسمعت العرب تقول: من شبّ إلى دبّ، ومن شبّ إلى دبّ، مخفوض منون، يذهبون به مذهب الأسماء. والمعنى: مذ كان صغيرا فشبّ إلى أن دبّ كبيرا.
قال الله تعالى: {آلْآن وقدْ عصيْت قبْلُ وكُنْت مِن الْمُفْسِدِين (91)} [يونس: 91] {آلْآن وقدْ كُنْتُمْ بِهِ تسْتعْجِلُون} [يونس: 51]، أي أفي هذا الوقت وفي هذا الأوان تتوب وقد عصيت قبل؟
أنّى:
أنّي يكون بمعنيين. يكون بمعنى: كيف، نحو قول الله تعالى: {أنّى يُحْيِي هذِهِ الله} [البقرة: 259] أي كيف يحييها؟ وقوله: {فأْتُوا حرْثكُمْ أنّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أي كيف شئتم.
وتكون بمعنى: من أين، نحو قوله: {قاتلهُمُ الله أنّى يُؤْفكُون} [التوبة: 30] وقوله: {أنّى يكُونُ لهُ ولدٌ} [الأنعام: 101].
والمعنيان متقاربان، يجوز أن يتأول في كل واحد منهما الآخر.
وقال الكميت:
أنّى ومن أين آبك الطّرب ** من حيث لا صبوة ولا ريب

فجاء بالمعنيين جميعا.
ويكأن:
ويكأنّ قد اختلف فيها: فقال الكسائي: معناها: ألم تر، قال الله تعالى: {ويْكأنّ الله يبْسُطُ الرِّزْق لِمنْ يشاءُ} [القصص: 82] وقال: {ويْكأنّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُون} [القصص: 82]، يريد: ألم تر.
وروى عبد الرّزاق، عن معمر، عن قتادة أنه قال: ويكأنّ: أولا يعلم أن الله يبسط الرزق لمن يشاء. وهذا شاهد لقول الكسائي.
وذكر الخليل أنها مفصولة: وي، ثم تبتدئ فتقول: كأنّ الله.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: هي: كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء، كأنه لا يفلح الكافرون. وقال: وي صلة في الكلام.
وهذا شاهد لقول الخليل، ومما يدل على أنها كأنّ: أنها قد تخفف أيضا كما تخفّف كأن قال الشاعر:
ويكأنّ من يكن له نشب يح ** بب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ

وقال بعضهم: ويكأن: أي رحمة لك، بلغة حمير.
كأنّ:
كأنّ تشبيه، وهي: (أنّ) أدخلت عليها كاف التشبيه الخافضة، ألا ترى أنك تقول: شربت شرابا كعسل، وشربت شرابا كأنه عسل، فيكونان سواء؟!.
وقد يخفف كأنّ ويحذف الاسم فيكون كالكاف، قال الشاعر يصف فرسا:
جموم الشّدّ شائلة الذّنابى ** وهاديها كأن جذع سحوق

أراد: كجذع. وقال آخر:
كأن ظبية تعطو إلى ناضر السّلم

لات:
لات قال سيبوية: (لات) مشبّهة (بليس) في بعض المواضع، ولم تمكّن تمكّنها، ولم يستعملوها إلا مضمرا فيها، لأنها ليست كليس في المخاطبة والإخبار، عن غائب، ألا ترى أنك تقول: ليست وليسوا، وعبد الله ليس ذاهبا، فتبني عليها، و(لات) لا يكون فيها ذاك، قال الله تعالى: {ولات حِين مناصٍ} [ص: 3]، أي ليس حين مهرب.
قال: وبعضهم يقول: {ولات حِين مناصٍ}. فيرفع، لأنها عنده بمنزلة: (ليس) وهي قليلة، والنصب بها لوجه. وقد خفض بها، قال أبو زبيد الطّائي:
طلبوا صلحنا ولات أوان ** فأجبنا أن ليس حين بقاء

وقال آخر:
فلمّا علمت أنّني قد قتلته ** ندمت عليه لات ساعة مندم

وإنما تكون (لات) مع الأحيان وتعمل فيها. فإذا جاوزتها فليس لها عمل.
وقال بعض البغداديين: (التاء) تزاد في أول (حين)، وفي أوّل (أوان)، وفي أول (الآن)، وإنّما هي (لا) ثم تبتدئ فتقول: تحين وتلان. والدليل على هذا أنهم يقولون:
تحين من غير أن يتقدمها (لا). واحتج بقول الشاعر:
العاطفون تحين ما من عاطف ** والمطمعون زمان ما من مطعم

وبقول الآخر:
وصلينا كما زعمت تلانا

وجرّ العرب بها يفسد عليه هذا المذهب، لأنهم إذا جرّوا ما بعدها جعلوها كالمضاف للزّيادة، وإنما هي (لا) زيدت عليها (الهاء) كما قالوا: ثمّ وثمّة.
وقال ابن الأعرابي في قوله الشاعر:
العاطفون تحين ما من عاطف

إنما هو (العاطفونه) بالهاء، ثم تبتدئ فتقول: حين ما من عاطف فإذا وصلته صارت الهاء تاء. وكذلك قوله: (و صلينا كما زعمته) ثم تبتدئ فتقول: لاتا، فإذا وصلته صارت الهاء تاء، وذهبت همزة الآن.
قال: وسمعت الكلابيّ ينهى رجلا عن عمل، فقال: حسبك تلان أراد: حسبكه الآن، فلما وصل صارت الهاء تاء.
وسنبيّن: كيف الوقوف عليها وعلى أمثالها من التاءات الزوائد، في كتاب (القراءات) إن شاء الله تعالى.
مهما:
مهما هي بمنزلة (ما) في الجزاء. قال الله تعالى: {وقالوا مهْما تأْتِنا بِهِ مِنْ آيةٍ لِتسْحرنا بِها فما نحْنُ لك بِمُؤْمِنِين} [الأعراف: 132]، أي ما تأتنا به من آية.
وقال الخليل في مهمما: هي (ما) أدخلت معها (ما) لغوا كما أدخلت مع (متى) لغوا، تقول: متى تأتني آتك، ومتى ما تأتني آتك. وكما أدخلت مع (ما) أيّ لغوا، كقوله: {أيّا ما تدْعُوا فلهُ الْأسْماءُ الْحُسْنى} [الإسراء: 110] أي أيّا تدعوا.
قال: ولكنهم استقبحوا أن يكرروا لفظا واحدا فيقولوا: (ما، ما) فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى. هذا قول الخليل.
وقال سيبويه: وقد يجوز أن تكون (مه) ضم إليها (ما).
ما ومن:
ما ومن، أصلهما واحد، فجعلت من للناس، وما لغير الناس. نقول: من مرّ بك من القوم؟ وما مرّ بك من الإبل؟.
وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وما خلق الذّكر والْأُنْثى} [الليل: 3]: أي ومن خلق الذّكر والأنثى. وكذلك قوله تعالى: {والْأرْضِ وما طحاها (6) ونفْسٍ وما سوّاها (7) فألْهمها فُجُورها وتقْواها} [الشمس: 6، 8] هي عنده في هذه المواضع بمعنى (من).
وقال أبو عمرو: هي بمعنى (الذي). قال: وأهل مكة يقولون إذا سمعوا صوت الرعد: سبحان ما سبّحت له.
وقال الفرّاء: هو: وخلقه الذّكر والأنثى، وذكر أنها في قراءة عبد الله {والذكر والأنثى}.
كاد:
كاد بمعنى همّ ولم يفعل. ولا يقال: يكاد أن يفعل، إنما يقال: كاد يفعل، قال الله تعالى: {فذبحُوها وما كادُوا يفْعلُون} [البقرة: 71].
وقد جاءت في الشعر، قال الشاعر:
قد كاد من طول البلى أن يمصحا

وأنشد الأصمعي:
كادت النّفس أن تفيظ عليه إذ ** ثوى حشو ريطة وبرود

ولم يأت منها إلّا فعل يفعل، وتثنيتهما وجمعهما. ولم يبن منها شيء غير ذلك.
قال بعضهم: قد جاءت (كاد) بمعنى (فعل) وأنشد قوله الأعشى:
وكاد يسمو إلى الجرفين فارتفعا

أي: سما فارتفع.
قال: ومثله قول ذي الرّمة:
ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت ** لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق

أي لو تعرضت له لبرق، أي: دهش وتحير.
بل:
بل تأتي لتدارك كلام غلطت فيه، تقول: رأيت زيدا بل عمرا.
ويكون لترك شيء من الكلام وأخذ في غيره. وهي في القرآن بهذا المعنى كثير:
قال الله تعالى: {ص والقرآن ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] ثم قال: {بلِ الّذِين كفرُوا فِي عِزّةٍ وشِقاقٍ} [ص: 2] فترك الكلام الأول وأخذ ببل في كلام ثان. ثم قال حكاية عن المشركين:
{أأُنْزِل عليْهِ الذِّكْرُ مِنْ بيْنِنا} ثم قال: {بلْ هُمْ فِي شكٍّ مِنْ ذِكْرِي} فترك الكلام وأخذ ببل في كلام آخر فقال: {بلْ لمّا يذُوقُوا عذابِ} [ص: 8] في أشباه لهذا كثيرة في القرآن.
قال الشاعر:
بل هل أريك حمول الحيّ غادية ** كالنّخل زيّنها ينع وإفضاح

وقال آخر:
بل من يرى البرق يشري بتّ أرقبه ** بل منهل ناء من الغياض

وكذلك (الواو) إذا أتت مبتدأة غير ناسقة للكلام على كلام- كانت بمعنى ربّ.
وإذا وليت اسما- وهي بهذا المعنى-: خفض بها، وشبّهت بربّ وبالواو.
وتأتي مبتدأة، قال أبو النّجم:
وهي كذلك في الشعر، كقوله:
ومهمه مغبرّة أرجاؤه

وقال آخر:
ودوّيّة قفر تمشّى نعامها

وقال آخر:
وهاجرة نصبت لها جبيني

يدلّون بهذه الواو الخافضة: على ترك الكلام الأول، وائتناف كلام آخر.
هل: تكون للاستفهام، ويدخلها من معنى التقوير والتّوبيخ ما يدخل الألف التي يستفهم بها، كقوله تعالى: {هلْ لكُمْ مِنْ ما ملكتْ أيْمانُكُمْ مِنْ شُركاء} [الروم: 28]، وهذا استفهام فيه تقرير وتوبيخ.
وكذلك قوله تعالى: {هلْ مِنْ شُركائِكُمْ منْ يبْدؤُا الْخلْق ثُمّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34].
والمفسّرون يجعلونها في بعض المواضع بمعنى: (قد)، كقوله تعالى: {هلْ أتى على الْإِنْسانِ حِينٌ مِن الدّهْرِ} [الإنسان: 1]، أي قد أتى وقوله: {هلْ أتاك حديث الْغاشِيةِ} [الغاشية: 1] و: {وهلْ أتاك حديث مُوسى} [طه: 9]،: {وهلْ أتاك نبأُ الْخصْمِ إِذْ تسوّرُوا الْمِحْراب} [ص: 21]، و: {هلْ أتاك حديث ضيْفِ إِبْراهِيم}؟ [الذاريات: 24].
هذا كله عندهم بمعنى: (قد).
ويجعلونها أيضا بمعنى: (ما) في قوله: {هلْ ينْظُرُون إِلّا أنْ تأْتِيهُمُ الْملائِكةُ} [الأنعام: 158] و: {هلْ ينْظُرُون إِلّا أنْ يأْتِيهُمُ الله فِي ظُلل مِن الْغمامِ} [البقرة: 210]، و: {هلْ ينْظُرُون إِلّا السّاعة} [الزخرف: 66]، و: {هلْ ينْظُرُون إِلّا تأْوِيلهُ}؟ [الأعراف: 53]، و: {فهلْ على الرُّسُلِ إِلّا الْبلاغُ الْمُبِينُ}؟ [النحل: 35].
هذا كله عندهم بمعنى: (ما).
وهو والأوّل عند أهل اللغة تقرير.
لولا ولوما:
لولا تكون في بعض الأحوال بمعنى: هلّا وذلك إذا رأيتها بغير جواب، تقول: لولا فعلت كذا تريد هلّا، فعلت كذا، قال الله تعالى: {فلوْلا كان مِن الْقُرُونِ مِنْ قبْلِكُمْ} [هود: 116]، {فلوْلا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقةٍ مِنْهُمْ طائِفةٌ} [التوبة: 122] {فلوْلا إِذْ جاءهُمْ بأْسُنا تضرّعُوا} [الأنعام: 43]، {فلوْلا إِنْ كُنْتُمْ غيْر مدِينِين} [الواقعة: 86]، أي فهلا. وقال: {فلوْلا كانتْ قرْيةٌ آمنتْ} [يونس: 98].
وقال الشاعر:
تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم ** بني ضوطرى لولا الكميّ المقنّعا

أي: فهّلا تعدّون الكميّ.
وكذلك (لو ما)، قال: لوْ ما تأْتِينا بِالْملائِكةِ، [الحجر: 7] أي هلّا تأتينا.
فإذا رأيت للولا جوابا فليست بهذا المعنى، كقوله: {فلوْلا أنّهُ كان مِن الْمُسبِّحِين (143) للبِث فِي بطْنِهِ إِلى يوْمِ يُبْعثُون (144)} [الصافات: 143، 144]، فهذه (لولا) التي تكون لأمر لا يقع لوقوع غيره.
وبعض المفسرين يجعل لولا في قوله: {فلوْلا كانتْ قرْيةٌ آمنتْ} بمعنى (لم) أي: فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها عند نزول العذاب إلّا قوم يونس.
وكذلك قوله: {فلوْلا كان مِن الْقُرُونِ مِنْ قبْلِكُمْ} [يونس: 98] أي فلم يكن.
لما:
لمّا: تكون بمعنى (لم) في قوله: {بلْ لمّا يذُوقُوا عذابِ} [ص: 8] أي: بل لم يذوقوا عذاب.
وتكون بمعنى (إلّا)، قال تعالى: {وإِنْ كُلُّ ذلِك لمّا متاعُ الْحياةِ الدُّنْيا} [الزخرف:35] أي: إلّا متاع الحياة الدنيا، {إِنْ كُلُّ نفْسٍ لمّا عليْها حافِظٌ} [الطارق: 4] أي: إلّا عليها، وهي لغة هذيل مع (إن) الخفيفة التي تكون بمعنى (ما).
ومن قرأ {وإِنْ كُلُّ ذلِك لمّا متاعُ} بالتخفيف {إِنْ كُلُّ نفْسٍ لمّا عليْها حافِظٌ} جعل (ما) صلة، وأراد: وإن كلّ ذلك لمتاع الحياة، وإن كلّ نفس لما عليها حافظ.
فإذا رأيت للمّا جوابا فهي لأمر يقع بوقوع غيره، بمعنى (حين)، كقوله تعالى: {فلمّا آسفُونا انْتقمْنا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] أي: حين آسفونا، {ولمّا جاء أمْرُ ربِّك} [هود: 101] أي: حين جاء أمر ربك.
أو:
أو تأتي للشك، تقول. رأيت عبد الله أو محمدا.
وتكون للتخيير بين شيئين، كقوله: {فكفّارتُهُ إِطْعامُ عشرةِ مساكِين مِنْ أوْسطِ ما تُطْعِمُون أهْلِيكُمْ أوْ كِسْوتُهُمْ أوْ تحْرِيرُ رقبةٍ} [المائدة: 89] وقوله: {ففِدْيةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صدقةٍ أوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] أنت في جميع هذا مخيّر أيّة فعلت أجزأ عنك.
وربما كانت بمعنى واو النّسق.
كقوله: {فالْمُلْقِياتِ ذِكْرا (5) عُذْرا أوْ نُذْرا (6)} [المرسلات] يريد: عذرا ونذرا. وقوله: {لعلّهُ يتذكّرُ أوْ يخْشى} [طه: 44] وقوله: {لعلّهُمْ يتّقُون أوْ يُحْدِثُ لهُمْ ذِكْرا} [طه: 113]، أي لعلهم يتقون ويحدث لهم القرآن ذكرا.
هذا كلّه عند المفسرين بمعنى واو النّسق.
وأما قوله: {وأرْسلْناهُ إِلى مِائةِ ألْفٍ أوْ يزِيدُون} [الصافات: 147]، فإن بعضهم يذهب إلى أنها بمعنى بل يزيدون، على مذهب التّدارك لكلام غلطت فيه وكذلك قوله: {وما أمْرُ السّاعةِ إِلّا كلمْحِ الْبصرِ أوْ هُو أقْربُ} [النحل: 77] وقوله: {فكان قاب قوْسيْنِ أوْ أدْنى} [النجم: 9].
وليس هذا كما تأوّلوا، وإنما هي بمعنى (الواو) في جميع هذه المواضع:(وأرسلناه إلى مائة ألف ويزيدون)، (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر وهو أقرب)، و: (فكان قاب قوسين وأدنى.)
وقال ابن أحمر:
قرى عنكما شهرين أو نصف ثالث ** إلى ذاكما قد غيّبتني غيابيا

وهذا البيت بوضح لك معنى الواو: وأراد: قرى شهرين ونصفا، ولا يجوز أن يكون أراد قرى شهرين بل نصف شهر ثالث.
وقال آخر:
أثعلبة الفوارس أو رياحا ** عدلت بهم طهيّة والخشابا

أراد: وعدلت هذين بهذين.
أم: تكون بمعنى أو، كقوله تعالى: {أأمِنْتُمْ منْ فِي السّماءِ أنْ يخْسِف بِكُمُ الْأرْض فإِذا هِي تمُورُ (16) أمْ أمِنْتُمْ منْ فِي السّماءِ أنْ يُرْسِل عليْكُمْ حاصِبا} [الملك: 16، 17]، وكقوله: {أفأمِنْتُمْ أنْ يخْسِف بِكُمْ جانِب الْبرِّ أوْ يُرْسِل عليْكُمْ حاصِبا ثُمّ لا تجِدُوا لكُمْ وكِيلا (68) أمْ أمِنْتُمْ أنْ يُعِيدكُمْ فِيهِ تارة أُخْرى} [الإسراء: 68، 69].
هكذا قال المفسرون، وهي كذلك عند أهل اللغة في المعنى، وإن كانوا قد يفرقون بينهما في الأماكن.
وتكون أم بمعنى ألف الاستفهام، كقوله تعالى: {أمْ يحْسُدُون النّاس على ما آتاهُمُ الله مِنْ فضْلِهِ} [النساء: 54]، أراد: أيحسدون الناس؟.
وقوله: {ما لنا لا نرى رِجالا كُنّا نعُدُّهُمْ مِن الْأشْرارِ (62) أتّخذْناهُمْ سِخْرِيّا أمْ زاغتْ عنْهُمُ الْأبْصارُ} [ص: 62، 63]، أي زاغت عنهم الأبصار وألف اتخذناهم موصولة.
وكقوله: {أمْ لهُ الْبناتُ ولكُمُ الْبنُون} [الطور: 39]، أراد: أله البنات {أمْ تسْئلُهُمْ أجْرا فهُمْ مِنْ مغْرمٍ مُثْقلُون} [الطور: 40]. أراد: أتسألهم أجرا {أمْ عِنْدهُمُ الْغيْبُ فهُمْ يكْتُبُون} [الطور: 41]، أراد: أعندهم الغيب.
وهذا في القرآن كثير، يدلّك عليك قوله: {الم (1) تنْزِيلُ الْكِتابِ لا ريْب فِيهِ مِنْ ربِّ الْعالمِين (2) أمْ يقولون افْتراهُ بلْ هُو الْحقُّ مِنْ ربِّك} [السجدة: 1، 3]، ولم يتقدم في الكلام: أيقولون كذا وكذا فترد عليه: أم تقولون؟ وإنما أراد أيقولون: افتراه، ثم قال:
بلْ هُو الْحقُّ مِنْ ربِّك.
لا:
لا: تكون بمعنى لم، قال الله تعالى: {فلا صدّق ولا صلّى} [القيامة: 31]، أي لم يصدّق ولم يصلّ، وقال الشاعر:
وأيّ خميس لا أفأنا نهابه ** وأسيافنا يقطرن من كبشه دما؟!

أي لم نفئ نهابه. وقال آخر:
إن تغفر اللهم تغفر جمّا ** وأيّ عبد لك لا ألمّا

أي لم يلمّ بالذّنوب.
أولى:
أولى تهدّد ووعيد، قال الله تعالى: {أوْلى لك فأوْلى (34) ثُمّ أوْلى لك فأوْلى (35)} [القيامة: 34، 35]، وقال: {فأوْلى لهُمْ} [محمد: 20]. ثم ابتدأ فقال: {طاعةٌ وقول معْرُوفٌ} [محمد: 21].
وقال الشاعر لمنهزم:
ألفيتا عيناك عند القفا أولى ** فأولى لك ذا واقيه

لا جرم:
لا جرم قال الفراء: هي بمنزلة لابد ولا محالة، ثم كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة حقّا. وأصلها من جرمت: أي كسبت.
وقال في قول الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

أي كسبتهم الغضب أبدا.
قال: وليس قول من قال: حقّ لفزارة الغضب، بشيء.
ويقال: فلان جارم أهله، أي كاسبهم، وجريمتهم.
ولا أحسب الذّنب سمّي جرما إلّا من هذا: لأنه كسب واقتراف.
إن الخفيفة:
إن الخفيفة تكون بمعنى (ما)، كقوله تعالى: {إِنِ الْكافِرُون إِلّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20]، {وإِنْ كانتْ إِلّا صيْحة واحِدة} [يس: 29]، {وإِنْ كُلُّ نفْسٍ لمّا عليْها حافِظٌ} [الطارق: 4].
وقال المفسرون: وتكون بمعنى لقد، كقوله، {إِنْ كان وعْدُ ربِّنا لمفْعُولا} [الإسراء: 108] {وتالله إِنْ كُنّا لفِي ضلالٍ مُبِينٍ (97)} [الشعراء: 97] {وتالله إِنْ كِدْت لتُرْدِينِ} [الصافات: 56] وفك في {بِالله شهِيدا بيْننا وبيْنكُمْ إِنْ كُنّا عنْ عِبادتِكُمْ لغافِلِين} [يونس: 29].
وقالوا أيضا: وتكون بمعنى إذ، كقوله: {ولا تهِنُوا ولا تحْزنُوا وأنْتُمُ الْأعْلوْن إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [آل عمران: 129]، أي إذ كنتم. وقوله: {فالله أحقُّ أنْ تخْشوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [التوبة: 13].
وقوله: {وذرُوا ما بقِي مِن الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [البقرة: 278].
وهي عند أهل اللغة (إن) بعينها، لا يجعلونها في هذه المواضع بمعنى (إذ) ويذهبون إلى أنه أراد: من كان مؤمنا لم يهن ولم يدع إلى السّلم، ومن كان مؤمنا لم يخش إلا الله، ومن كان مؤمنا ترك الرّبا.
ها:
ها: بمنزلة خذ وتناول، تقول: ها يا رجل. وتأمر بها، ولا تنهى.
ومنها قول الله تعالى: {هاؤُمُ اقْرؤُا كِتابِيهْ} [الحاقة: 19]، ويقال للاثنين: هاؤما اقرءا.
وفيها لغات، والأصل: هاكم اقرؤوا، فحذفوا الكاف، وأبدلوا الهمزة، وألقوا حركة الكاف عليها.
هات:
هات: بمعنى أعطني، مكسورة التاء، مثل رام وغاز وعاط فلانا: قال الله تعالى:
قُلْ {هاتُوا بُرْهانكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِين} [البقرة: 111]، أي ائتوا به.
قال الفراء: ولم أسمع هاتيا في الاثنين، إنما يقال للواحد والجميع، وللمرأة: هاتي، وللنّساء: هاتين. وتقول: ما أهاتيك، بمنزلة ما أعاطيك. وليس من كلام العرب هاتيت. ولا ينهى بها.
تعال:
تعال: تفاعل من علوت، قال الله تعالى: {فقُلْ تعالوْا ندْعُ أبْناءنا وأبْناءكُمْ} [آل عمران: 61].
ويقال للاثنين من الرجال والنساء: تعاليا، وللنساء: تعالين.
قال الفراء أصلها عال إلينا، وهو من العلوّ.
ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إيّاها صارت عندهم بمنزلة هلمّ، حتى استجازوا أن يقولوا للرجل وهو فوق شرف: تعال، أي اهبط، وإنما أصلها: الصعود.
ولا يجوز أن ينهى بها، ولكن إذا قال: تعال، قلت: قد تعاليت وإلى شيء أتعالى؟
هلم:
هلم: بمعنى تعالى، وأهل الحجاز لا يثنّونها ولا يجمعونها. وأهل نجد يجعلونها من هلممت، فيثنّون ويجمعون ويؤنّثون. وتوصل باللام فيقال: هلمّ لك، وهلمّ لكما.
قال الخليل: أصلها (لمّ) زيدت الهاء في أوّلها.
وخالفه الفراء فقال: أصلها (هل) ضمّ إليها (أمّ) والرّفعة التي في اللام من همزة (أمّ) لمّا تركت انتقلت إلى ما قبلها.
وكذلك (اللهم) نرى أصلها: (يا الله أمّنا بخير) فكثرت في الكلام فاختلطت، وتركت الهمزة.
كلا:
كلا: ردع وزجر، قال الله تعالى: {أيطْمعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أنْ يُدْخل جنّة نعِيمٍ (38) كلّا} [المعارج: 38، 39].
قال: {بلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أنْ يُؤْتى صُحُفا مُنشّرة (52) كلّا بلْ لا يخافُون الْآخِرة (53)} [المدثر: 52، 53].
وقال: {ثُمّ إِنّ عليْنا بيانهُ (19) كلّا بلْ تُحِبُّون الْعاجِلة (20)} [القيامة] يريد: انته عن أن تعجل به.
وقال: {يحْسبُ أنّ مالهُ أخْلدهُ (3) كلّا ليُنْبذنّ فِي الْحُطمةِ (4)} [الهمزة: 3، 4]، أي لا يخلده ماله. {فِي أيِّ صُورةٍ ما شاء ركّبك (8) كلّا بلْ تُكذِّبُون بِالدِّينِ (9)} [الانفطار:
8، 9]، أي ليس كما غررت به.
وقال: {ويْلٌ للمُطفِّفِين (1) الّذِين إِذا اكْتالُوا على النّاسِ يسْتوْفُون (2) وإِذا كالُوهُمْ أوْ وزنُوهُمْ يُخْسِرُون (3) ألا يظُنُّ أُولئِك أنّهُمْ مبْعُوثُون (4) لِيوْمٍ عظِيمٍ (5) يوْم يقُومُ النّاسُ لِربِّ الْعالمِين (6) كلّا} [المطففين: 1، 7]. يريد: انتهوا.
رويدا:
رويدا: بمعنى مهلا، رويدك: بمعنى أمهل، قال الله تعالى: {فمهِّلِ الْكافِرِين أمْهِلْهُمْ رُويْدا (17)} [الطارق] أي: أمهلهم قليلا.
وإذا لم يتقدمها: أمهلهم، كانت بمعنى مهلا.
ولا يتكلّم بها إلّا مصغّرة ومأمورا بها.
وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير معنى الأمر، قال الشاعر:
كأنها مثل من يمشي على رود

أي على مهل.
ألا:
ألا تنبيه وهي زيادة في الكلام، قال تعالى: {ألا يوْم يأْتِيهِمْ ليْس مصْرُوفا عنْهُمْ} [هود: 8]. وقال: {ألا حِين يسْتغْشُون ثِيابهُمْ} [هود: 5].
وتقول: ألا إنّ القوم خارجون: تريد بها: افهم اعلم أنّ الأمر كذا وكذا.
الويل:
الويل كلمة جامعة للشر كله. قال الأصمعي: ويل تقبيح، قال الله تعالى: {ولكُمُ الْويْلُ مما تصِفُون} [الأنبياء: 18]. تقول العرب: له الويل، والأليل والأليل: الأنين.
وقد توضع في موضع التّحسّر والتّفجع، كقوله: {يا ويْلنا} [الأنبياء: 14]. {ويا ويْلتى أعجزْتُ أنْ أكُون مِثْل هذا الْغُرابِ} [المائدة: 31]. وكذلك: ويح وويس، تصغير.
لعمرك:
لعمرك، ولعمر الله: هو العمر. ويقال: أطال الله عمرك، وعمرك، وهو قسم بالبقاء.
إي:
إي: بمعنى بلى، قال الله تعالى: {ويسْتنْبِئُونك أحقٌّ هُو قُلْ إِي وربِّي إِنّهُ لحقٌّ} [يونس: 53]. ولا تأتي إلا قبل اليمين، صلة لها.
لدن:
لدن بمعنى عند، قال تعالى: {قدْ بلغْت مِنْ لدُنِّي عُذْرا} [الكهف: 76] أي بلغت من عندي.
وقال: {لوْ أردْنا أنْ نتّخِذ لهْوا لاتّخذْناهُ مِنْ لدُنّا} [الأنبياء: 17] أي من عندنا.
وقد تحذف منها النون، كما تحذف من (لم يكن) قال الشاعر:
من لد لحييه إلى منحوره

أي من عند لحييه.
وفيها لغة أخرى أيضا: لدى، قال الله تعالى: {وألْفيا سيِّدها لدى الْبابِ} [يوسف:
25] أي عند الباب. اهـ.